كتابات وآراء


الإثنين - 23 مايو 2022 - الساعة 09:32 م

كُتب بواسطة : د. عيدروس نصر - ارشيف الكاتب


(1)

منذ اليوم الأول لتحقيق استقلال الجنوب وبناء دولته الجديدة جمهورية اليمن الجنوبية (ولاحقا الديمقراطية) الشعبية قامت العلاقة بين الجنوب والشمال، على مبدأين متناقضين، عبرا عن الحلفيتين الثقافيتين والأيديولوجيتين اللتين تحكمتا في سير الأحداث في اليمن وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم من علاقة سريالية لا يفهما إلا قلة من دارسي الفنون التشكيلية المبنية على الغرائبية واللامنطق.

المبدأ الأول وهو الفلسفة السياسية للقسادة الجنوبية القائمة على إن "تحقيق الوحدة اليمنية هدف استراتيجي يمكن التضحية بكل شيء من أجله"، واستمر هذا الشعار دون استلهام المتغيرات الدولية والإقليمية التي عصفت بالعالم، كل العالم، بما في ذلك الجنوب نفسه ودولته خلال النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، فبعد أن كان الهدف تحقيق "اليمن الديمقراطي الموحد ذي الآفاق الاشتراكية، أصبح ما جرى لاحقاً هو تحقيق "اليمن الموحد" بلا ديمقراطية وبلا آفاق اشتراكية ولا حتى إنسانية أو مدنية.

المبدأ الثاني على النقيض مما سلف ذكره إذ كانت الفلسفة القائمة لدى حكام دولة الشمال الشقيقة منذ عهد الأئمة القاسميين وما قبلهم ، حتى عهد علي عبد الله صالح ورشاد العليمي، تقوم على ابتلاع الجنوب، من خلال ثنائية الأصل والفرع، والجزء والكل، و"واعتصموا بحبل الله" كتعبيرات منعَّمة وملطَّفة للغزو والابتلاع والاستباحة.

ولم تكن المشكلة تكمن هنا فقط، بل إن المشكلة تمثلت في أن الأشقاء وعلى مدى عقود من الزمن كانوا يتبعون القوة في الوصول إلى تحقيق هذه الاستراتيجية وعندما يفشلون كان اللجوء إلى الاتفاقيات والمواثيق والعهود وسيلة خداع ، وكانوا يوقعون على أي شيء حتى لو طُلِبَ منهم طلاء البحر باللون البرتقالي، فلا يهمهم ما تنص عليه المواثيق والعهود لأنهم يضمرون دوماً ما ليس منصوصاً عليه فيها من التزامات وتعهدات.

كان العام 1990 هو عام الخديعة الكبرى التي تعرض لها الجنوب والجنوبيون على أيدي أشقائهم في الشمال، وتتلخص هذه الخديعة في أن القيادة الجنوبية ذهبت إلى مشروع، (الوحدة ) بفلسفتها هي، وتجاهلت أو نست عدة اعتبارات من بينها التفاوت السياسي والفكري والخلفية الأيديولوجية ، والتباين الديمغرافي، والأهم من هذا فلسفة الطرف الآخر ونواياه، وربما انغشت بشعاراته ومخاتلاته واعتبر القادة الجنوبيون أنهم قد وحدوا الرؤية والموقف مع (شركائهم) وأن اليمن (الموحدة) ستغدو واحةً للديمقراطية والتنمية وصورةً للدولة المدنية الحديثة الأولى في الوطن العربي.

بيد إن ما اتضح لاحقا هو أن الأشقاء إنما أرادوا انتزاع المشروعية الدولية عن الجنوب (كما كشف أحد كبار وجهائهم) ، ثم قلبوا ظهر المجن لكل الاتفاقات الجميلة والخطابات الرنانة والوعود المخملية، واعتبروا أي مطالب للجنوبيين حتى لو تعلقت بكشف القتلة ومحاسبة المجرمين، ومقاومة الإرهاب المستورد عنوةً، اعتبروا كل هذا عملا انفصالياً.
ولن نتعرض لما جرى خلال الفترة التي سماها الفقيد المناضل عمر الجاوي بــ"الانتقامية" من جرائم ضد الجنوبيين، وقيدت كلها ضد مجهول، بما في ذلك جريمة التصفية الجسدية التي تعرض لها الشهيد العميد ماجد مرشد مستشار وزير الدفاع على يد والد العميد طارق عضو مجلس الرئاسة الحالي.

(2)

كانت كل العمليات الإرهابية التي تعرض لها القادة والكوادر الجنوبيون، سواء من قبل أجهزة الأمن الرسمية، أو عبر الجماعات الإرهابية المستوردة من أفغانستان تمهيداً للخدعة الثانية.

ولقد قلت أن العلاقة مع الأشقاء في النخبة السياسية الشمالية، عمل صعب وشائك لم يستطع الجنوبيون استنباط خفاياه ومكنواناته الكامنة في الأغوار، وأشرت أن الأشقاء في النخبة السياسية الشمالية (الحاكمة على وجه الخصوص) لا يعيرون أي اكتراث لجميع الاتفاقيات والعهود التي يوقعونها، فهم يضمرون أمرا آخر ليس بالضرورة أن تتضمنه تلك الاتفاقيات، وأحيانا يحرصون على تضمين الاتفاقيات مفردات زئبقية تقبل عشرات التأويلات، ويختارون فقط التأويل الذي يناسب مبتغياتهم وأهدافهم السياسية وسأتعرض لهذه القضية عند الحديث عن اتفاق الرياض.

كانت الجهود المخلصة التي بذلها العديد من القادة وممثلو القوى السياسية الجنوبية والشمالية، بعد أزمة الاغتيالات والاعتكافات، قد أسفرت عن ميلاد وثيقة العهد والاتفاق، ولن أتعرض لتفاصيل مواد الوثيقة فهي موجودة على شبكة الإنترنت، لكنني سأتعرض لنهج الاعتكافات التي سخره البغض للتهكم والتندر والسخرية.

لقد وجد الرئيس علي سالم البيض (نائب الرئيس حينها) نفسه أمام خيارين أخلاهما مر، فإما السكوت على كل الجرائم التي يتعرض لها قادة وكوادر الجنوب، وهذا ما لا يمكن أن يقبل به زعيم سياسي أو حتى مناضل عادي، بدأ حياته السياسية ثائراً متطوعاً وفدائيا من أجل الحرية والكرامة، وإما أن يدخل في حرب لم يكن يخطط لها لا قبل 22 مايو ولا حتى أثناء العمليات الإرهابية، وإن كان الطرف الآخر قد أعد نفسه سلفا لهذه الحرب منذ ما قبل 1990م، فكانت سياسة الاعتكافات وسيلة ضغط سياسية على الرأي العام السياسي اليمني والإقليمي والعربي، ليس للاقتصاص لضحايا العمليات الإرهابية بل لمحاولة إنقاذ التجربة التي ظلت حلما يراود الأجيال فجاء من يعبث بها ويتعامل معها كأداة ابتزاز وكسب سياسي ومادي ليس إلّا.

لسنا بحاجة إلى استعراض الجهود المخلصة والنبيلة التي بذلت من أجل خروج وثيقة العهد والاتفاق بالصورة التي خرجت بها، وهي بالتأكيد لم تكن لتلبي تطلعات الاتجاهات الوطنية المدنية والمتطلعة إلى دولة مدنية حديثة فعلا، تقوم على النظام والقانون والحياة المؤسسية، لكن "ما كل ما يتمنى المرء يدركهُ".

كان توقيع الطرف الجنوبي على وثيقة العهد والاتفاق نابعا من الحرص على أي بقايا أمل في نجاح "التجربة الوحدوية" التي غدت مهددة بالانهيار، خصوصا وأن الجنوب هو صاحب المبادرة وهو من قدم أضعاف مضاعفة من التناولات في سبيلها مما قدمه الطرف الآخر، كما مثل التوقيع على الوثيقة تعبيرا عن الحرص على عدم الذهاب باتجاه الحرب، وقد قالها الرئيس علي سالم البيض، أنني لا يمكن أن أنسى دماء الشهداء وضحايا الإرهاب، وذكر الشهيدين ماجد مرشد وهاشم العطاس، وآخرين، لكننا سنقدم أي تنازلات من أجل إعادة الحياة الطبيعية إلى البلد وعدم الاندفاع باتجاه الحرب.

لكن الطرف الآخر وقع على الوثيقة وهو يضمر شيئا آخر غير ما وقع عليه كعادته، وليس أدل على هذا من أن سلطات ما بعد 7/7 قد أسمت الوثيقة بوثيقة الخيانة والغدر، فحينما كان الرئيس علي عبد الله وعبد الله الأحمر ومعهما علي سالم البيض يوقعان على الورقة الأخيرة من الوثيقة كانت القوات الشمالية في أبين تتأهب لتفجير الموقف عسكرياً وهو ما جرى اليوم الثاني قبل أن يجف حبر الوثيقة.

كانت وثيقة عمان هي الخديعة الثانية التي جرت على مرأى ومسمع من الشركاء الإقليميين والدوليين الذين شهدوا توقيع الوثيقة لكنهم، باستثناء بيان أبها لدول مجلس التعاون الخليجي الذي أفسدته دولة قطر الشقيقة، لم ينبسوا ببنت شفة شجبا أو استنكارا إزاء ما جرى بعد ذلك من عدوان على الجنوب من غزو وتدمير ونهب وسلب وإقصاء وتهميش واحتلال الأراضي والثروات والشواطئ الجنوبية، وإعادة الجنوب خمسة عقود وأكثر إلى الوراء.

وللحديث بقية.