كتابات وآراء


الأربعاء - 01 يناير 2020 - الساعة 03:49 م

كُتب بواسطة : محمد نجيب - ارشيف الكاتب


- سبق لنا وأن عرفنا بشكل عام أن مهام ووظائف (5-8 في عددها وتصنيفاتها)البنك المركزي في أي دولة من دول العالم هي متشابهة ومتطابقة بغض النظر عن ما إذا كانت الدولة متقدمة إقتصاديا (الولايات المتحدة, ألمانيا, اليابان إلخ) أو من الاقتصاديات الناشئة (الصين,كوريا الجنوبية, البرازيل,الهند, إندونيسيا الخ) أو اقتصادي نامي(مصر ,دول الخليج العربي, تايلاند, نيجيريا إلخ ) أو الإقتصاد الأقل نموًا (بلدنا, بنجلاديش, بركينوفاسو, جبيوتي إلخ ) ; وإحدى هذه المهام والوظائف هي كون البنك المركزي بنك الدولة تستعين به في ضمان استقرار الأوضاع الاقتصادية في الدولة عامة وتلبية وتوفير إحتياجاتها ومتطلباتها المالية على وجه الخصوص عند الحاجة والضرورة. وكمثال ,حالة تمويل عجز الموازنة العامة. وياتي هذا العجز عندما يكون إجمالي بند /باب المصروفات (النفقات) المتوقع في الموازنة أكبر من إجمالي بند/باب إيرادات (مداخيل) الدولة المتوقعة لنفس الفترة الزمنية. استمرار / استدامة عجوزات المالية العامة (الموزانات) لسنوات متتالية, دون إطفاء (دفع) لأي ديون قائمة من فترات زمنية سابقة مع فوائدها المستحقة, ينتج عنه ما يسمى ب "الدين العام " . وعادة تستخدم البنوك المركزية أداة تمويل تقليدية لتمويل العجز الحكومي المتوقع في المالية العامة تعرف ب"آذون الخزانة " وللمعلومية, فإن هناك طرق ومخارج اخرى لتمويل عجوزات المالية العامة (تم ذكرها في مقالات سابقة) وليس المجال الآن لتكرارها وشرحها مجددًا. وتأتي هذه الأداة التمويلية (الآذون) الأكثر استخدامًا وانتشارًا من قبل البنوك المركزية على صيغة تعهد سيادي على دفع مبالغ الآذون "الأسمية" لفترات زمنية مختلفة , تبدأ من شهر إلى سنة إلى 5 سنوات ; في بعض الدول يمتد آجالها إلى 30عاما. ويضاف إلى هذا التعهد السيادي(بدفع القيمة الاسمية وقت الاستحقاق ) نسبة فائدة مئوية سنوية يحددها البنك المركزي والتي تعتبر مؤشر لأسعار الفائدة التي يرغب البنك المركزي بثتبتها (كسياسة نقدية /مالية) في الاقتصاد الوطني ويستخدمه القطاع المصرفي في تسعير منتجاته وخدماته كالودائع الزمنية وسلة قروضه وخطوط الإئتمان لزبائنه وعملائه ; عمومًا تكون نسبة الفائدة عالية في حالات التضخم والسيولة المرتفعة. ونسبة فائدة متدنية في أوضاع التعثر والانكماش الاقتصادي.
- وكقاعدة اقتصادية متجذرة فإن العجز في المالية العامة يأتي كنتيجة لخطط وبرامج ومشاريع الحكومة الاقتصادية والتنموية والاستثمارية والتي من "المفترض" أن تكون قادرة على "إنتاج " قنوات جديدة وإضافية تزيد من إيرادات (مداخيل) الدولة على مدى فترات زمنية مختلفة تمكن من خلالها (الحكومة) دفع ما عليها من "دين عام" وقيمة مضافة ونمو للناتج المحلي الإجمالي مقارنة بما قبل هذه المشاريع والخطط (تخفيف من حدة البطالة, استقرار في أسعار الصرف, احتواء التضخم, زيادة الاستثمار إلخ ).
ولكن كثير من الدول, خاصة تلك التي تنتمي إلى فئات "النامية" وكذلك "الأقل نموًا " غامرت وعربدت وأساءت اقتصاديًا استخدام /واللجواء إلى تمويل "عجوزاتها " وتأسيس "دين عام " غير مبرر ولا مبني على أي أسس أو قواعد اقتصادية. هذه الاقتصاديات اختارت أن تلقي بنفسها حاضرًا ومستقبلًا في "مستنقع" الدين العام بدون اي مبرر أو أعذار.
- هذه الفئة من الدول استخلصت وانتجت عجوزات في "ماليتها العامة (الموازنات )" لتمويل بنود/أبواب غير إنتاجية او رأس مالية أو استثمارية. بل وجهت ووضعت هذه التمويلات في قنوات استهلاكية بحثة ونواحي مصروفات عامة جارية تتبخر في الهواء وكأن شئ لم يكن !
- ولعل أسباب العلل المذكورة أعلاه كان بالإمكان تداركها , أو حتى التخفيف من حدتها وذلك باتخاذ قرارات على علاقة مباشرة بها ك "سياسات التقشف والإنفاق الحكومي". إعادة هيكلة أجهزة الدولة التي تستنزف وتستهلك الجزءالأكبر من الإيرادات. إلغاء كل ماهو غير ضروري ويمكن الاستغناء عنه وإيجاد البدائل محليا. وكذلك أمور أخرى يعرفها القاصي والداني.
- وللعلم فإن الدين العام لأي دولة ينقسم إلى قسمين. الأول دين عام بالعملة الوطنية. أما الثاني فهو دين عام بالعملة الصعبة ويسمي "دين سيادي". مجموع الدينين يسمى الدين العام للدولة.
- وكلما كبر حجم "الدين العام " كلما كان الوضع الاقتصادي أكثر ضررًا ينعكس على مستوى البطالة وعزوف الاستثمار الخارجي وضغوط على سعر صرف العملة إلخ. والعكس صحيح.
- ويقاس إجمالي حجم الدين العام لأي دولة مقارنة بحجم اقتصادها. وهذا المؤشر هو نسبة إجمالي الدين العام(بالعملة المحلية والأجنبية ) إلى الناتج المحلي الإجمالي أي الدين العام /الناتج المحلي الإجمالي.
- ولقد اتفق أغلب الاقتصاديين على أن أي نسبة تزيد عن 60% من إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تعتبر مؤشرًا اقتصاديًا سلبيًا يجب الإنتباه إليه والعمل على تقليص حجم إجمالي الدين العام إلى أقل من هذه النسبة.
- ولنا في مثل هذه الحالة أمثلة عدة. لعل أولها اليونان التي وصل مستوى دينها العام إلى نحو 180% من إجمالي ناتجها المحلي GDP.فبرغم مرور قرابة عقد من الزمن مازالت اليونان تعاني اقتصاديا من ثقل وعب' الديون. مثال آخر, فنزويلا صاحبة أكبر إحتياطي نفطي في العالم التي ترزح تحت وطأة الديون السيادية وتذهب اغلب إيرادات إنتاجها المتواضع من النفط إلى دائنيها.
- وهناك أمثلة أخرى عديدة عن دول عاجزة عن الخروج والتحرر من "حلقة الدين العام المفرغة" وتعاني ويلات اقتصادية انعكست على تدهور معيشة وحياة مواطنيها.
- وبالعودة إلى اليمن, فإن البداية مع "الدين العام " بدأ في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي عندما استهل التعاون مع صندوق النقد الدولي والذي دشن ب"برانامج الإصلاحات الإدارية والمالية ".
- ويبدو أن الاختلالات الإدارية والمالية كانت عميقة إلى حد أن البرنامج, وتحديدًا عملية تمويل عجوزات المالية العامة أصبح سمة ونمط أي حكومة تأتي إلى الحكم حتى يومنا هذا.
- بحسب تقرير البنك الدولي (2018م) فإن نسبة حجم إجمالي الدين العام اليمني(عملة وطنية واجنبية) إلى الناتج المحلي الإجمالي اليمني قد كسر حاجز ال90%.
- والوضع يزداد سوادًا عندما ندرك أن الفائدة على الدين العام بالريال تعتبر واحدة من الأعلى (إن لم تكن الأعلى) على مستوى العالم العربي والخارجي. وبحساب الفائدة السائدة (تقرب من 30% سنويا) والدين العام بالريال اليمني القائم والذي يقارب ال3 تريليون ريال, فإن الفائدة المستحقة ستقترب من التريليون ريال وهو رقم يعادل نحو 50% من إيرادات آخر موازنة لحكومة طيب الذكر معالي دولة الأستاذ محمد سالم باسندوه.
- إن الآثار المترتبة على مثل هذا الحال المقلق واضحة وضوح الشمس في نواحي الحياة من خدمات وبنية أساسية ومدارس وكهرباء ومياه وصرف صحي...وحتى الرواتب والأجور .
- ولم يتوقف تأثير الدين العام بالعملة الوطنية عند هذا المستوى الغير مسبوق لدى القطاعات المختلفة المذكورة أعلاه, بل ألقى بضلاله القاتمة والمظلمة على القطاع المصرفي الذي امتص وشفط "الدين العام بالريال" أغلب سيولته والتي تعتبر بمثابة الدم الذي يجري في شريان عملياته وأنشطته المصرفية لعملائه وزبائنه في الداخل والخارج.
- إن على البنك المركزي اليمني إن يعي أولًا أن هناك وضع جدي يصل إلى مستوى الخطورة في سياسته فيما يتعلق بالدين العام بالريال اليمني. وعليه, يجب أن تتوقف عمليات بيع "آذون الخزانة" من قبل المركزي حتى إشعار آخر.
- العرض على فخامة الرئيس عبده ربه منصور هادي على التبعات المدمرة حاضرًا ومستقبلًا لمثل هذه السياسة العبتية و الغير مسؤولة.
- على البنك المركزي بقيادة المخضرم معالي المحافظ أحمد عبيد الفضلي, الذي نتعشم منه كل الخير بإذن الله, أن يؤسس لكيان جديد (إدارة) ضمن نشاط متخصص وحصري في "إدارة الدين العام".
- وبكل تواضع نطلب من معالي المحافظ الخبير أن يوجه بالبدء "بعمليات السوق المفتوح Open Market Operations "..حتى نعطي نسمة هواء وروح أمل وتفاؤل للقطاع المصرفي.
- إن حالنا المأزوم اليوم هو لاشك بسبب الوضع الاقتصادي الذي سببته الحرب. ولكن قد ربما يكون أحسن لولا الوضع المالي الحساس والذي أحد أسبابه الدين العام بالعملة الوطنية. وماذا سيكون الحال غدًا عندما توقف الحرب اوزارها بإذن الله ونحن كدولة مثقلين بكل هذه الديون التي حتما لن تعطي فرصًا أحسن وأفضل للأجيال القادمة. ولعلنا نشبه الدين العام وتبعاته بحرمان أولادنا واحفادنا من الحد الأدنى المقبول من الحياة الانسانية والعيش الكريم ..وكأننا من الحين نخطف منهم لقمة العيش, ونحرمهم من فرص التعليم والتفوق والإبداع والمبادرة إلخ.
-بإمكان البنك المركزي وبقيادته الجديدة ,خاصة وبعد أن تهيئت لهم كل السبل (بالأخص رئيس وزراء فاعل ومدرك ويقظ ) أن يصدقوا العمل قولًا وفعلًا ....
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون...."
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا".....
كل عام و "ديننا العام",بالريال اليمني,في تناقص دائم وقطاعنا المصرفي وقد استنهض لاسترداد عافيته...
والوطن في سلام وأمان...
كل عام والجميع بخير...


محمد نجيب