السبت - 07 ديسمبر 2024 - الساعة 07:28 ص
لــــن يكون من الإنصاف المقارنة بين أوضاع البلد وعدن على وجه الخصوص في اللحظة الراهنة وبين أوضاعها ما قبل 2015م، لسبب بسيط وهو إن نظام الرئيس علي عبدالله صالح قد ظل حريصاً على استبقاء منظومة الإدارة التنفيذية والخدمية والاقتصادية وطبعاً الأمنية والعسكرية في قبضته، ولما سلم السلطة بقيت هذه الإدارة كما أرادها هو (أي علي عبدالله صالح) وبقيت مراكز القوى هي المهيمنة على تسيير الموارد والخدمات والتصرف بعائداتها وتنفيذ السياسات (التي يفترض أنها قد تغيرت وفقا للتغير السياسي الذي يفترض أنه جرى)، أو كما يقول بعض المحللين أن الرئيس صالح بنى نظاماً على مقاسه الخاص، ينشط بوجوده وينفذ أجنداته بغيابه، وهذا ما حصل بعد التحرير، حيث بقيت (وما تزال) الدولة العفاشية العميقة هي المتحكم بتنفيذ السياسات وإدارة جميع الملفات، ولم تتغير وظيفتها سوى أنها انتقلت من التنفيذ إلى التعطيل.
وفي فترة نزوح الرئيس هادي وتسليم المرافق والمؤسسات لغير المؤهلين وعديمي الأمانة عمَّت الفوضى وساد الفساد ولكم أن تتخيلوا مديراً عاماً لواحدةٍ من أهم المؤسسات الخدمية ذات العائدات المالية الكبيرة، يهاجر إلى دولة شقيقة ويربط كل العمليات الإدارية والمالية بتوقيعه عبر الإنترنت ويتم تحويل إيرادات المرفق إلى حسابه الخاص في أحد بنوك بلد النزوح، وهذه الحالة ليست سوى عينة من حالات كثيرة يصعب استعراضها أو تفكيك ألغازها.
إن هذا الكلام ليس شهادة مجانية على أفضلية نظام ما قبل 2015م، لأن هذا النظام هو المسؤول الأول والأخير عن كل ما تعرضت له عدن والجنوب من عمليات التدمير الممنهج، والعقاب الجماعي ضد المواطنين الجنوبيين باعتبارهم جميعاً انفصاليون وأعداء للوطن.
لكن هذا أيضا لا يعفي الشرعيين ممن تسلموا إدارة الجنوب الذي أُطلِق على محافظاته اسم "المحافظات المحررة"، لا يعفيهم من المسؤولية عن كل الدمار والتدهور والخراب الذي استمر بعد هروب الجماعة الانقلابية وأتباعها من عدن ومحافظات الجنوب.
إن أي تغيير أو ثورة مهما كانت شعاراتها وخطابات قادتها وكتابات وأحاديث إعلامييها، لا تقاس إلا بما حققته من تغيير نحو الأفضل في حياة الناس من أنصارها، أو حتى غير أنصارها من المواطنين الواقعين في النطاق الجغرافي لنفوذها وتأثيرها، أما الخطابات والشعارات و (الهنجمات) الإعلامية فإنها لا تشفي مريضاً ولا تشبع جائعاً ولا تنصف مظلوماً ولا تعيد مخطوفاً ولا تداوي جريحاً من جرحاها ولا تعوض أسرة شهيدٍ من شهدائها.
سيقول قائل أن السلطة الشرعية (أي سلطة وحكومة رشاد العليمي وبن مبارك وشركائهم) هي المسؤولة عن معاناة الجنوبيين باعتبارها المهيمنة على صنع السياسات واستلام الموارد المالية والتحكم بتصريفها.
نعم لقد كنا نقول هذا الكلام قبل اتفاق الرياض (نوفمبر 2019م)، وحتى قبل مشاورات الرياض (أبريل 2022م) أما وقد أصبح الجنوب ممثلا بالمجلس الانتقالي الجنوبي وأنصاره، جزءاً من هذه الشرعية، فإن رمي الاتهام على شرعية العليمي وبن مبارك وحدهما لم يعد مقنعاً، ولا يمثل سوى هروبٍ من الاعتراف بالحقيقة المرة والمؤلمة، وهي إن الشراكة بين المجلس الانتقالي وأنصاره وبين الشركاء الشماليين الهاربين من المواجهة مع الحوثيين وأنصارهم، لم تحقق شيئا مما كان الجنوبيون يتطلعون إليه من انفراج في حياتهم المعيشية والخدمية والإنسانية ناهيك عن حلم استعادة الدولة الذي يبتعد عنا كلما تطاول عمر هذه الشراكة وتفاقم تأثير نتائجها البائسة على حياة أبناء الجنوب.
نعم لقد تغيرت الأحوال في عدن وعموم محافظات الجنوب لكنه تغيرٌ إلى الأسوأ وهذا ما يقر به الجميع من محبي الجنوب وحتى من خصوم قضيته العادلة، بيد إن هذا لا يعني أن من كانوا قائمين على حكم الجنوب من أنصار المرحلة العفاشية كانوا مخلصين أو نزيهين أو عادلين، ولكن لأن من جاء بعدهم أثبتوا أنهم أسوأ منهم بكثير، وبمعنى آخر أن أحوال الجنوب والجنوبيين لم تتغير إلا من السيء إلى الأسوأ وهو ما لم يكن بحسبان أي من المواطنين الجنوبيين وحتى من الطبقة السياسية الجنوبية.
من المؤسف أن أي انفراج في أحوال الناس لا يلوح في الأفق وأن القادم قد يغدو أسوأ من الأسوأ الراهن، ومن المؤسف أيضاً أن الشراكة الجنوبية مع منظومة الشرعيين الهاربين، تمنح هؤلاء فرصةً لمواصلة تكريس الأوضاع الموجعة، واستمرار حرب الخدمات وسياسات التجويع تجاه أبناء الجنوب، ومن ثم نقل جزء من تحمل المسؤولية عن تدهور الأوضاع وتنامي معاناة الناس إلى الشريك الجنوبي الذي لم يستفد من هذه الشراكة ولم يسخرها لخدمة مصالح الشعب الذي منحه التفويض ذات يوم.
كنت وفي عدة منشورات سابقة قد تقدمت بنصيحة للزملاء في قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي (وأنا لست من الميالين لتقديم النصائح)، لكنني لا أجد بداً من تكرار هذه النصيحة.
إن المجلس الانتقالي أمام ثلاثة خيارات هي:
1. إما الاستفادة من الشراكة مع سلطات الشرعية وتقديم مصفوفة من الإجراءات العملية الهادفة إلى تخفيف معاناة الناس واستعادتهم حقوقهم في توفير خدمات الماء والكهرباء والتطبيب والتعليم وخدمات البلدية وتسليم الناس مرتباتهم الشهرية بانتظام ومعالجة أزمة انهيار العملة وغيرها من الواجبات الحكومية التي ينص عليها الدستور والقانون في أي بلد من البلدان؛
2. وإما إعلان الانسحاب من هذه الشراكة الأكثر من بائسة، والتي نقلت المجلس الانتقالي الجنوبي من قائد للجنوبيين ومعبر عن تطلعاتهم وإصرارهم على استعادة دولتهم إلى شريك، أو على الأقل متفرج على عذاباتهم ومعاناتهم التي تدفعهم يوماً بعد يوم إلى الهاوية المحدقة كلما تطاول عمر هذه الشراكة.
3. وإما البقاء في هذه الشراكة كما هو الحال عليه حتى اللحظة، وبالتالي الكف عن الحديث عن التفويض وعن احتكار تمثيل الجنوبيين وسلق الوعود لهم بما يدغدغ مشاعرهم دون تحقيق شيءٍ من هذه الوعود، وبالتالي فحينما تنفض القاعدة الجماهيرية من حول المجلس وهي حاضنته الاجتماعية الحقيقية، فإن الساحة الجنوبية مرشحة لاحتمالات عديدة قد لا تكون جميعها حميدة وذات ثمار إيجابية.
إن عامة الناس، بما في ذلك أنصار أي كيان سياسي، لا تتمسك بهذا الكيان لمجرد الحب والتعاطف معه والانبهار بخطابات قادته وتصريحاتهم ومقابلاتهم المتلفزة، بل إنها تتمسك بالمشروع الذي يعلنه هذا الكيان، وهذا المشروع تختبره الجماهير بوعيها وذكائها الفطري من خلال ما تلمسه من تغير في حياتها، وهي مستعدة أن تضحي بطليعتها السياسية إذا ما خذلتها دون أن تضحي بتطلعاتها وأحلامها التي نذرت في سبيلها أنهاراً من الدماء وقوافلَ طويلةً من الشهداء من خيرة أبنائها.
﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾